فصل: الطَّرْد أَو الاطراد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل: تَقْسِيم الأقيسة إِلَى قِيَاس عِلّة وَقِيَاس شبه:

قد ذكرنَا فِيمَا قدنا، تَقْسِيم القائسين الأقيسة إِلَى الْجَلِيّ والخفي وَقد قسموها على وَجه آخر، فَقَالُوا: الْقيَاس يَنْقَسِم إِلَى قِيَاس عِلّة وَقِيَاس شبه.
فَأَما قِيَاس الْعلَّة، فَهُوَ أَن تستنبط عِلّة الأَصْل، وَيرد الْفَرْع إِلَى الأَصْل بعلة الأَصْل. وَهَذَا هُوَ الْقيَاس الْمُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ.
وَالضَّرْب الثَّانِي من الْقيَاس قِيَاس الشّبَه وَهُوَ أَن يلْحق فرع بِأَصْل، لِكَثْرَة إشباهه بِالْأَصْلِ فِي الْأَوْصَاف، من غير أَن يعْتَقد أَن الْأَوْصَاف الَّتِي شابه الْفَرْع فِيهَا الأَصْل، هِيَ عِلّة حكم الأَصْل. وَذَلِكَ نَحْو إِلْحَاق العَبْد بِالْحرِّ فِي بعض الْأَحْكَام لشبهه بِهِ فِي جمل من الْأَحْكَام.
وَقد اخْتلف القائسون فِي هَذَا الضَّرْب.
فَذهب الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم إِلَى بُطْلَانه، وَإِلَيْهِ ذهب الصَّيْرَفِي وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَغَيرهمَا من القائسين.
ويحكى عَن ابْن سُرَيج أَنه صحّح قِيَاس الشّبَه.
ويؤثر ذَلِك عَن الشَّافِعِي.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَلَا يكَاد يَصح ذَلِك عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ مَعَ علو رتبته فِي الْأُصُول.
ثمَّ الْقَائِلُونَ بِقِيَاس الشّبَه أَجمعُوا على أَنه لَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَان الْمصير إِلَى قِيَاس الْعلَّة. وَلَكِن إِذا استد على الْمُجْتَهد طَرِيق قِيَاس الْعلَّة، سَاغَ لَهُ التَّمَسُّك بالأشباه.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه لَا يسوغ الْمصير إِلَى قِيَاس الشّبَه إِلَّا بِشَرْطَيْنِ:
أَحدهمَا: مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ أَن لَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَان الْمصير إِلَى الْقيَاس عِلّة.
وَالثَّانِي: أَن يجتذب الْفَرْع أصلان فَيلْحق بِأَحَدِهِمَا بِغَلَبَة الْأَشْبَاه.
وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ أَن قَالُوا: الْأَشْبَاه الْحكمِيَّة أولى، ثمَّ الْأَشْبَاه الراجعة إِلَى الصّفة ويليه مُعظم أشبه الحكم.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا فرق بَينهمَا.
وَنحن الْآن نذْكر الِاحْتِجَاج لكل فريق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ القَوْل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين، ثمَّ نوضح الْحق على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين.
فَأَما الَّذِي ردوا قِيَاس الشّبَه، فقد عولوا على أَن قَالُوا: إِذا ألحق القائس الْفَرْع بِالْأَصْلِ بأشباه، فَيُقَال لَهُ: هَذِه الْأَشْبَاه الَّتِي ذكرتها، هَل وَجب الحكم فِي الأَصْل لأَجلهَا؟ فَإِن زعم أَن الحكم فِي الأَصْل، وَجب لأَجلهَا، فَهُوَ إِذا قِيَاس عِلّة، فَإِنَّهُ يرد فِيهِ الْفَرْع الى الأَصْل.
وَإِن قَالُوا: إِن هَذِه الْأَشْبَاه، لَيست بعلة فِي حكم الأَصْل، وَمَا ثَبت الحكم فِي الأَصْل لأَجله فَيُقَال لَهُ: فَمَا وَجه إلحاقك الْفَرْع بِالْأَصْلِ بالأشباه الَّتِي اعْترفت بِأَن الحكم لم يجب لَهَا فِي الأَصْل. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ أَن يجمع بَينهمَا من غير وصف أصلا، وَهَذَا وضح الْبطلَان.
فَإِن قَالَ قَائِل: بِمَ تنكر على من يزْعم أَن الرب تَعَالَى تعبد الْمُجْتَهدين بطريقتين أحداهما: قِيَاس الْعلَّة، وَالثَّانيَِة. إِذا عجزوا عَن قِيَاس الْعلَّة أَن ينْظرُوا إِلَى غَلَبَة الْأَشْبَاه ويعتقدوا أَن ذَلِك عَلامَة استوائهما فِي الحكم، أَو يعتقدا أَن استوائهما فِي الْأَشْبَاه لاجتماعهما فِي الْعلَّة الكامنة، المستأثرة بهَا علم الله تَعَالَى.
وَهَذَا لعمري سُؤال. وَلَكِن الْوَجْه فِي الْجَواب عندنَا أَن نقُول: نَحن لَا ننكر وُرُود التَّعَبُّد بِمَا قلتموه. وَلَكِن مَا ثبتناه الْقيَاس فِي الأَصْل إِلَّا بالأدلة القاطعة، وَنحن نعلم قطعا أَن الصَّحَابَة تمسكوا بِقِيَاس الْعلَّة فِي الْحَوَادِث الَّتِي تقررت فِي زمانهم، وألحقوا الْفُرُوع بالأصول فِي الْمعَانِي الَّتِي اعتقدوها أَمَارَات للْأَحْكَام فِي الْأُصُول.
وَلم تقم دلَالَة قَاطِعَة فِي هَذَا الضَّرْب من الِاعْتِبَار، فَلم يسغْ التَّمَسُّك بِهِ، وَلم تدل عَلَيْهِ دلَالَة سمعية.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه كَمَا يسوغ مَا قَالُوهُ فِي تَجْوِيز الْعُقُول، فتسوغ ضروب من الأمارات سواهَا، فِي تَجْوِيز الْعُقُول. وَلَكِن لَا يجوز التَّمَسُّك بهَا إِذْ لم يرد فِيهَا تعبد.
فَهَذَا أقوى مَا تمسك بِهِ هَؤُلَاءِ.
واعتصم الْقَائِلُونَ بِقِيَاس الشّبَه، بطرق من الظَّوَاهِر وَغَيرهَا.
وَلم نذكرها لركاكة معظمها وَلَكنَّا نذْكر مَا عولوا عَلَيْهِ، فَمِنْهَا أَنهم قَالُوا: ورد فِي الشَّرْع اعْتِبَار الْأَشْبَاه فِي جَزَاء الصَّيْد، كَمَا نطق بِهِ نَص الْكتاب، وَكَذَلِكَ يعْتَبر فِيمَن تقبل شَهَادَته الْأَكْثَر والأغلب من أَحْوَاله، فَإِن كَانَ فِي أغلب أَحْوَاله متشبثا بِأَسْبَاب الْعَدَالَة قبلت شَهَادَته، وَإِن تكن الْأُخْرَى ردَّتْ، إِلَى غير ذَلِك.
قيل لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرتموه، لَا منجى فِيهِ، فَإِن أَكثر مَا فِي الْبَاب أَن سلم لكم أَن اعْتِبَار الْأَغْلَب فِي بعض موارد الشَّرِيعَة إِمَّا لنَصّ كتاب أَو إِجْمَاع أَو غَيرهمَا من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة، فَلم ادعيتم نصب اعْتِبَار الْأَشْبَاه علما فِي مَوَاضِع النزاع وَهل هَذَا إِلَّا إِثْبَات ضروب من الْأَدِلَّة بطرد مَا تمسكتم بِهِ. وكل مَا يتمسكون بِهِ فَهَذَا سَبيله.
فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يقيس اعْتِبَار الْأَشْبَاه على قِيَاس الْعلَّة؟
قيل: أصُول الْأَدِلَّة لَا تثبت بِمثل هَذَا الطَّرْد الواهي. على أَنا لَو رددنا إِلَى الْعقل لم يكن فِي مُقْتَضَاهُ، إِثْبَات أقيسة الشَّرْع، وَلَكِن لما قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على التَّمَسُّك بِالْقِيَاسِ، صرنا إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْب الَّذِي فِيهِ نزاعنا، لم ينْقل عَن أصحاب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على التَّخْصِيص.
فَهَذَا وَجه الْكَلَام على القَوْل، بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين فَإِذا كنت تذب عَن ذَلِك، فَالْأولى بك إبْطَال قِيَاس الشّبَه.
وَأما إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين، فقد قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، فَلَو رأى الْمُجْتَهد التَّمَسُّك بالأشباه فِي بعض الْحَوَادِث وَغلب على ظَنّه ثُبُوت حكم من قَضِيَّة أعتبار الْأَشْبَاه فَهُوَ مَأْمُور بِمَا غلب على ظَنّه قطعا عِنْد الله تَعَالَى.
وَأَوْمَأَ رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن رد قِيَاس الشّبَه وَالْقَوْل بِهِ، لَا يبلغ إِلَى الْقطع وَهُوَ من مسَائِل الِاحْتِمَال. وَهَذَا فِيهِ نظر عندنَا. فَإِن الْأَلْيَق بِمَا مهده رَضِي الله عَنهُ من الْأُصُول أَن يُقَال: كل مَا آل إِلَى إِثْبَات دَلِيل من الْأَدِلَّة فيطلب فِيهِ الْقطع، وسنوضح ذَلِك فِي كتاب الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. على أَن مَا قَالَه فِي كَون الْمُجْتَهد مَأْمُورا بِمَا غلب على ظَنّه سديد فِيمَا رامه فَإنَّا رُبمَا نقُول: إِن الْمُجْتَهد المتمسك بِضَرْب من الْقيَاس إِذا غلب على ظَنّه شَيْء وَفِي الْحَادِثَة نَص لم يبلغهُ فَهُوَ مَأْمُور قطعا عِنْد الله بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده. وَإِن كَانَ الْقيَاس فِي مُخَالفَة النَّص مردودا.

.فصل:

قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ذهب بعض الضعفة من أهل خُرَاسَان إِلَى أَنه لَا يُرَاعى فِي الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل نوع من التَّحَرِّي على التَّعْيِين وَلَكِن مهما رأى الْمُجْتَهد أَن يجمع بَين فرع وأصل، فَلَا يواخذ بِضَرْب الْجمع. وَنَفَوْا اعْتِبَار الْعلَّة فِي الأَصْل الْمَرْدُود إِلَيْهِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِيهِ هدم المقايس والعبر، وتسبب إِلَى إبْطَال طرد الِاجْتِهَاد. وَالْأولَى لَك أَن تدخل دُخُول مقسم، فَتَقول: إِذا نفيتم اعْتِبَار عِلّة الأَصْل فَلَا تخلون أما أَن تَقولُوا: أَنه لَيْسَ فِي الأَصْل عِلّة منصوصة أَو مجمع عَلَيْهَا، فتوافقون على مذهبكم.
وَكَذَلِكَ إِن قُلْتُمْ: لم يتعبد الله عباده بِطَلَب عِلّة متعينة فِي معلومه، وَإِنَّمَا كلف الْمُجْتَهد أَن يعْمل على مَا يرَاهُ عِلّة فِي غَلَبَة الظَّن فَهَذَا مُسْتَقِيم بالْقَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين وَهُوَ أليق.
وَإِن عنيتم بِنَفْي عِلّة الأَصْل، أَنه لَا اعْتِبَار لَهَا بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَيْسَ على الْمُجْتَهد إِلَّا الِاعْتِبَار بِضَرْب من التَّحَرِّي، فَهَذَا بهت عَظِيم.
وَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن يُقَال: فسوغوا لكل عَامي أَن يلْحق الْفَرْع بِالْأَصْلِ وَلَا تخصصوا الْقيَاس بالمجتهدين، إِن لم تراعوا وَجها مَخْصُوصًا فِي الِاجْتِهَاد والتحري وإلحاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ. فَإِن أحدا لَا يعجز عَن إِلْحَاق فرع بِأَصْل، إِذا رفض عَنهُ التَّحَرِّي والتدبر فِي طرق الِاجْتِهَاد.
وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِم، أَن نقُول لَهُم: لم جوزتم إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ من غير رِعَايَة وَجه من التَّحَرِّي. فَإِن قلتموه عقلا، فَلَيْسَ فِي الْعقل إِلَّا تَجْوِيز الأقيسة المجوزة شرعا وفَاقا فَمَا الظَّن بِمَا اخترعتموه؟ وَإِن جوزتم ذَلِك سمعا فأقيموا عَلَيْهِ دلَالَة سمعية، وهيهات!.
وَقد ضرب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَمْثِلَة مِنْهَا: أَنه قَالَ: فَلَو قَالَ قَائِل فِي إِجْرَاء الْأَحْكَام على السَّكْرَان فِي طَلَاقه وَغَيره، لما كَانَ السَّكْرَان معاقبا، وَجب أَن يكون معاقبا بِالطَّلَاق فَإِذا قيل لهَؤُلَاء: فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قَالُوا: لم يلْزمنَا أَكثر مِمَّا قُلْنَاهُ.
فَيُقَال لَهُم: وَلم قُلْتُمْ أَنه لما لحقه ضرب من الْعقَاب، يلْحقهُ هَذَا الضَّرْب الَّذِي نَحن فِيهِ؟ وَإِذا حققت عَلَيْهِم الطّلب فِي أَمْثَال ذَلِك، لم يبْق بِأَيْدِيهِم إِلَّا دَعْوَى عَارِية.
وَمن هَذَا الْقَبِيل أَيْضا، اسْتدلَّ من اسْتدلَّ على جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي حق الْمَرِيض فَيَقُول: لما جَازَ لَهُ أَن يُصَلِّي جَالِسا - وَهُوَ ضرب من التَّخْفِيف - فَيَنْبَغِي أَن يجوز لَهُ الْجمع.
فَيُقَال لَهُم: فَمَا وَجه الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل؟ فَإِن اقتصروا على الدَّعْوَى وضح بطلَان قَوْلهم وَإِن قَالُوا: إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك، لِأَن الْمُقْتَضى لجَوَاز الْقعُود فِي حق الْمَرِيض التَّخْفِيف. وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِيمَا نَحن فِيهِ.
قُلْنَا لَهُم: الْآن قد اعترفتم بِاعْتِبَار ضرب من التَّحَرِّي وَهُوَ الْمَطْلُوب مِنْكُم ثمَّ يعرض مَا ذكرتموه على قوادح الْعِلَل، فَإِن سلمت صحت، وَإِلَّا حكم ببطلانها.

.القَوْل فِي ذكر اخْتِلَاف القائسين فِي طرق إِدْرَاك الْعِلَل:

مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ، أَنه لَا يشْتَرط فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل دلَالَة مَقْطُوعَة بهَا من نَص أَو إِجْمَاع.
وَذَهَبت شرذمة من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ، إِلَى أَن الْقيَاس لَا يَصح، حَتَّى تكون عِلّة الأَصْل مَنْصُوصا عَلَيْهَا.
وَأما إِذا لم يكن نَص وَلَا إِجْمَاع، فَلَا معنى لإستثارة عِلّة بالإجتهاد من الأَصْل بِنَاء على غَلَبَة الظَّن.
ثمَّ اعتبروا فِي الْإِجْمَاع الَّذِي ذَكرُوهُ إِجْمَاع القائسين. وَقد أوضحنا بطلَان ذَلِك، وَبينا أَنهم لَيْسُوا كل الْأمة، وَلَا تقوم الْحجَّة بقَوْلهمْ. فَلَا نعيد مَا سبق.
وَهَا نَحن نُقِيم الْأَدِلَّة على بطلَان اشْتِرَاط النَّص على عِلّة الأَصْل، بعد تَقْدِيم، فَنَقُول: إِذا نَص صَاحب الشَّرِيعَة على عِلّة الأَصْل، فَهَل تَقولُونَ أَنه يجب طرد الْعلَّة و إِن لم يتعبد بِالْقِيَاسِ أم لَا تَقولُونَ ذَلِك؟
فَإِن قُلْتُمْ: أَنه يجب طرد الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، وَإِن لم يتعبد بِالْقِيَاسِ تمسكا بِمُقْتَضى اللَّفْظ وموجبه فَالْكَلَام عَلَيْكُم من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: أَن هَذَا إفصاح برد الْقيَاس وَتمسك بِمُوجب اللَّفْظ على زعمكم فَكيف تعتزون إِلَى الْقيَاس ثمَّ تنفونه؟ على أَنا قد قدمنَا بطلَان هَذَا الْمَذْهَب عِنْد ردنا على القاساني والنهرواني. وَإِن قُلْتُمْ أَن الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، لَا تطرد إِلَّا بعد ثُبُوت التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فأوضحوا بِمَ عَرَفْتُمْ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ؟ فَلَا يزالون فِي تردد حَتَّى يعتصموا بِالْإِجْمَاع وَنحن نعلم أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ يبتدرون إِلَى الْقيَاس فِي الْحَوَادِث مَا شَذَّ مِنْهَا وَمَا ظهر، ونعلم قطعا أَنهم كَانُوا لَا يتوقفون فِي إِلْحَاق الْفُرُوع بالأصول على ثُبُوت علل منصوصة بِأَلْفَاظ مُصَرح بهَا وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنهم اعتبروا طرق الْقيَاس فِي غوامض الْمسَائِل مَعَ شغورها عَن الْعِلَل المنصوصة فِي أُصُولهَا. فَبَطل مَا قَالُوهُ وَتبين أَن الطَّرِيق الَّذِي عرف بِهِ إِثْبَات أصل الْقيَاس، لَا يتَضَمَّن اشْتِرَاط مَا شرطوه.
وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، فِي إبْطَال اشْتِرَاط النَّص. أَن نقُول: إِذا اشترطتم كَون الْعلَّة فِي الأَصْل مَنْصُوصا عَلَيْهَا، وزعمتم أَن الْفَرْع يلْحق بِالْأَصْلِ قِيَاسا من غير توَسط، بِمُوجب اللَّفْظ فَبِمَ تنكرون على من يشْتَرط النَّص فِي أَن عِلّة الأَصْل معداة إِلَى الْفَرْع، كَمَا شرطتم النَّص فِي عِلّة الأَصْل؟ فَمَا الْفَصْل بَين المقالتين؟ فَإِن لم يكن بُد من اعْتِبَار النَّص فعموا.
ثمَّ قَوْلكُم هَذَا يسوقكم إِلَى إبْطَال الِاجْتِهَاد لَا محَالة. وَلَهُم كَلَام يتَّصل بِأَحْكَام الِاجْتِهَاد وَذَلِكَ أَنهم زَعَمُوا أَن عِلّة الأَصْل يجب أَن تكون مَقْطُوعًا بهَا، وَإِلَّا فتكليف طلبَهَا، مَعَ أَن الْعقل لَا يدل عَلَيْهَا بِعَينهَا - وَلَيْسَت عَلَيْهَا دلَالَة سمعية - فالتكليف فِي طلبَهَا تَكْلِيف مَا لَا يقدر عَلَيْهِ.
وَهَذَا لَا يتَوَجَّه على الْقَائِلين بتصويب الْمُجْتَهدين وَذَلِكَ أَنهم لَا يَقُولُونَ بِأَن عِلّة الأَصْل متعينة فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى فَتعين طلب العثور عَلَيْهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ يتَوَجَّه على الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد.

.فصل: سالك الْعلَّة:

اعْلَم، أَن عِلّة الأَصْل تثبت بطرق، وَنحن نشِير إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ثمَّ نذْكر بعد ذكر الصَّحِيح مِنْهَا، طرقا فَاسِدَة، تمسك بهَا بعض الْفُقَهَاء فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل، ونوضح فَسَادهَا.
فأقوى الطّرق فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل أَن يتضمنها كتاب أَو سنة.
ثمَّ ذَلِك يَنْقَسِم: فَمِنْهُ مَا يكون مُصَرحًا بِهِ وَمِنْه مَا يُنبئ عَنهُ ضمنا.
فَأَما مَا يكون مُصَرحًا بِهِ فنحو قَوْله تَعَالَى: {كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} وَقَوله تَعَالَى: {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إسرءيل} وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله}
فَهَذِهِ الظَّوَاهِر وأمثالها من السّنة مصرحة بِإِثْبَات الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة فِيهَا عللا.
وَالَّذِي يُنبئ عَن التَّعْلِيل ضمنا فتكثر أمثلته، وَلَكنَّا نذْكر مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال. فَمِنْهُ مَا روى عَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «لايقضي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان» ففهم كَافَّة الْعلمَاء من ذَلِك، أَن الَّذِي راعاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شغل الْغَضَب جاشه واقتضاه لرده عَن تَمام فكره فِي طلب الْحق فَكل مَا يحل ممحله فِي مَعْنَاهُ من غَلَبَة النّوم والجوع وَنَحْوهمَا فَهُوَ مثله.
وألحقوا بِهَذَا الْقَبِيل مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لما سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أينقص الرطب إِذا يبس؟ فَقَالُوا: نعم قَالَ: فَلَا إِذا.
وَهَذَا بِأَن يلْحق بِالصَّرِيحِ أولى.
وَمِمَّا يتَّصل بذلك، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «من أعتق شركا لَهُ فِي عبد قوم عَلَيْهِ» ففهم من مَضْمُون خطابه رِعَايَة الرّقّ، ثمَّ اقْتضى إِلْحَاق الْأمة بِالْعَبدِ.
وَمِمَّا يتَّصل بالأنبياء عَن التَّعْلِيل، وَإِن لم يكن مُصَرحًا بِهِ، أَن يذكر صَاحب الشَّرِيعَة صفة فِي شَيْء ثمَّ يعقب تِلْكَ الصّفة بِإِثْبَات حكم، بِحَيْثُ يعلم فِي قَضيته الْخطاب أَن الحكم مُرْتَبِط بِالْوَصْفِ الْمُتَقَدّم. وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى. {ويسئلونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} فعلق الاعتزال الَّذِي قدمه من ذكر الْأَذَى بِحرف الْفَاء. وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَابا عَن أَمر سبق، ويتضمن ارتباطا بِمَا فرط من الْكَلَام.
وألحقوا بذلك تَعْلِيق الحكم بِكُل اسْم مُشْتَقّ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَقَوله تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «وَلَا تَبِيعُوا الطَّعَام إِلَّا مثلا بِمثل» فَهُوَ مُشْتَقّ من الطّعْم، وَالْخطاب دَال على نَصبه عِلّة.
وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على ثُبُوت عِلّة الأَصْل، مَا تحقق من قضايا أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَضِيَّة التَّعْلِيق والارتباط. وَذَلِكَ نَحْو مَا تقرر لصحبه رَضِي الله عَنْهُم من تعلق سُجُوده بسهوه، وَمن تعلق سُجُوده عِنْد تِلَاوَة بعض الْآيَات لتلاوتها، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا أدركوه بقرائن الْأَحْوَال.
فَهَذِهِ الطّرق الَّتِي يسْتَدلّ بهَا فِي إِثْبَات علل الْأُصُول.
فَإِن قَالَ قَائِل: فشيء مِمَّا ذكرتموه، لَيْسَ بِنَصّ غير قَابل للتأويل. إِذْ قد ترد لَفظه صيغتها التَّعْلِيل، وَلَا يُرَاد بهَا التَّعْلِيل. وتكثر نَظَائِر ذَلِك فِي مجاري الْخطاب فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ التَّعْلِيل بالدلوك. فَمَا يؤمنكم أَن تكون الْأَلْفَاظ الَّتِي تمسكتم بهَا فِي إِثْبَات علل الْأُصُول، وقسمتموها إِلَى الصَّرِيح والمتضمن، معدولة عَن ظواهرها مَحْمُولَة على وُجُوه التَّجَوُّز.
قيل لَهُم: نَحن لَا ننكر جَوَاز حملهَا على المحامل الَّتِي ذكرتموها، وَلَكِن ظواهرها تَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ فَلَا يجوز إِزَالَة ظواهرها، إِلَّا بِدلَالَة تقوم. إِذْ قد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مَا ذَكرنَاهَا من الظَّوَاهِر، لَيست من قبيل المجملات الَّتِي لَا يجوز التَّمَسُّك بهَا. فَإِذا لم يكن من التَّمَسُّك بهَا بُد فيستحيل أَن يُقَال: أَنَّهَا تحمل على وُجُوه التَّجَوُّز فَتعين إجراؤها على ظواهرها.
فَلَو قَالَ قَائِل: فَإِذا تمسكتم بِشَيْء مِمَّا ذكرتموه فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل فَزعم الْخصم أَنِّي أزيل مَا تمسكتم بِهِ، بِدلَالَة قِيَاس فَهَل تجوزون ذَلِك؟
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: هَيْهَات أَن نجوز ذَلِك! فَإِن الَّذِي يزِيل الظَّاهِر بِالْقِيَاسِ مطَالب بتصحيح عِلّة أصل قِيَاسه وَأقوى مَا يسْتَدلّ بِهِ المتمسك بِالْقِيَاسِ فِي إِثْبَات عِلّة أَصله ظَاهر مَا ذكرنَا، ثمَّ لَا نسلم اعتلاله عَن مثل مَا ألزمهُ.
فَيُقَال لَهُ: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن مَا استدللت بِهِ فِي تثبيت عِلّة أصلك هُوَ إِزَالَة الظَّاهِر، بِالْقِيَاسِ الَّذِي اعترضت عَلَيْهِ؟
فانحسم هَذَا الْبَاب وَتعين إِجْرَاء الظَّوَاهِر فِي إِثْبَات علل الْأُصُول مَعَ مقتضياتها وَلَا يقْدَح فِيهَا بالأقيسة الَّتِي لم تثبت عللها قطعا. فأحط بذلك علما فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ، أقوى الطّرق فِي إِثْبَات علل الْأُصُول.
وَألْحق مُعظم الْأُصُولِيِّينَ بذلك أَن يجمع القائسون على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل فَجعلُوا إِجْمَاعهم دلَالَة على ثُبُوت عِلّة الأَصْل.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا لَا يَصح عندنَا. فَإِن القائسين لَيْسُوا كل الْأمة وَلَا تقوم الْحجَّة بقَوْلهمْ.
ثمَّ ردد القَاضِي جَوَابه فِي أثْنَاء الْكَلَام فَقَالَ: لَو جعلنَا إِجْمَاع القائسين إِمَارَة تبين غَلَبَة الظَّن فِي المقاييس كَانَ مُحْتملا وَإِن لم نقل أَنه يُفْضِي إِلَى الْقطع.
وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ جَوَابه أَنه لَا أثر لإِجْمَاع القائسين اللَّهُمَّ وَإِن تصور رُجُوع منكري الْقيَاس عَن الْإِنْكَار، ثمَّ يجمع الكافة على عِلّة، فَتثبت حِينَئِذٍ.
قطعا وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على ثُبُوت عِلّة الأَصْل أَن يحصر صِفَاته فِي تقديرها عللا، فَيبْطل كلهَا بطرِيق من طرق الْبطلَان إِلَّا صفة وَاحِدَة ويستدل بِبُطْلَان جَمِيعهَا، وَعدم بطلَان مَا نَصبه أَنه عِلّة سديدة.
وَلم يذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي تثبيت علل الْأُصُول طَريقَة، سوى مَا ذَكرنَاهَا.
ثمَّ انعطف بعد ذَلِك على إبْطَال طَرِيق يتَمَسَّك بهَا بعض الْفُقَهَاء فِي إِثْبَات علل الْأُصُول.
فمما أبْطلهُ مَا ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَق رَضِي الله عَنهُ وَقدره طَريقَة فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل وَذَلِكَ أَنه قَالَ: لَيْسَ على القائس إِذا لم يجد شَيْئا مِمَّا قدمْنَاهُ إِلَّا أَن يعرض الْعلَّة الَّتِي استنبطها من الأَصْل، على مبطلات الْعِلَل فَإِن لم يجد مَا يقْدَح فِيهَا، وعرضها على أصُول الشَّرِيعَة فَلم يجد فِيهَا مَا يُنَافِي علته، فَيحكم بسلامة الْعلَّة، إِذا لم يبطل لَدَى الْعرض على الْأُصُول والقوادح.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا بَاطِل لَا أصل لَهُ، وقصاره الإجتزاء بِدَعْوَى مُجَرّدَة فَيُقَال للمتمسك بِهَذِهِ الطَّرِيقَة قصارى كلامك الإستدلال على صِحَة الْعلَّة بِعَدَمِ الدَّلِيل على فَسَادهَا فَلم زعمتم أَنَّهَا صحت إِذا لم تقم دلَالَة على فَسَادهَا وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا تفْسد بِعَدَمِ الدّلَالَة على صِحَّتهَا.
فَإِن قلت: عدم دلَالَة الْفساد دلَالَة على صِحَّتهَا قيل لَك: بل عدم الدّلَالَة على صِحَّتهَا، دلَالَة على فَسَادهَا. فيتقابل الْقَوْلَانِ وتتجرد دَعْوَى.
وَقد أطنب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي إبْطَال ذَلِك. وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غنية.

.الطَّرْد أَو الاطراد:

من الطّرق الَّتِي تمسك بهَا بعض الْفُقَهَاء من أصحاب الشَّافِعِي وَجَمِيع أصحاب أبي حنيفَة فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل، اطرادها وَهَذَا من أَوْهَى الطّرق وأضعفها.
فَإِنَّهُم يَقُولُونَ إِذا طُولِبَ التثبت عِلّة الأَصْل الدَّلِيل عَلَيْهَا إطرادها وَإِن الحكم يُوجد مَتى وجدت.
فَيُقَال لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرتموه إعتصام مِنْكُم بِنَفس الْخلاف، فَإِنَّكُم طردتم عِلّة الأَصْل فِي الحكم الْمُتَنَازع فِيهِ، والخصم لَا يساعد على ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع إِلَّا مَعَ تَحْقِيق الْعلَّة، فَلم طردتم الْعلَّة فِي الصُّورَة الَّتِي نوزعتم فِيهَا، وَلم نصبتموها عِلّة فِيهَا؟ فَإِذا قُلْتُمْ: إِنَّمَا نصبناها لاطرادها، فمحصوله: إِنَّمَا طردناها لإطرادها. فَهُوَ تَعْلِيل الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ.
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَن نقُول: الْعِلَل السمعية لَيست بأدلة فِي أَنْفسهَا، وَلَيْسَت كالأدلة الْعَقْلِيَّة الَّتِي تدل بذواتها، وَلَا تتَصَوَّر فِي الْعقل أَنْفسهَا إِلَّا دَالَّة. ومآل القَوْل فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة آئل إِلَى نصب صَاحب الشَّرِيعَة إِيَّاهَا امارات، وَلَا يثبت بقضايا الْعقل. وَإِنَّمَا يثبت بِدلَالَة السّمع. فَخرج من ذَلِك، أَن أصل الحكم الْمَطْلُوب لما افْتقر إِلَى دلَالَة سمعية لكَونه غير مدرك بقضية الْعقل، فَكَذَلِك انتصاب بعض الْأَوْصَاف إِمَارَة، يَنْبَغِي أَن يفْتَقر إِلَى دلَالَة سمعية.
فَإِذا طرد الطارد عِلّة فِي مسَائِل، فَيُقَال لَهُ: مَا الدَّلِيل على أَن مَا طردته باختيارك نصب امارة فِي الصُّورَة الَّتِي طردت فِيهَا، وَهَذَا لَا مخلص مِنْهُ.

.الاطراد والانعكاس:

وَمِمَّا يتَمَسَّك بِهِ مُعظم الْفُقَهَاء فِي تثبيت عِلّة الأَصْل، أطرادها وانعكاسها قَالُوا: فَإِذا وجدنَا الحكم فِي الأَصْل، يُوجد بِوُجُود الْعلَّة وَلَو قدر فقد الْعلَّة، انْتَفَى الحكم، فينصب ذَلِك آيَة فِي تثبيت مَا قدرناه عِلّة فِي الأَصْل. وَهَذَا مِمَّا ارْتَضَاهُ الطَّبَرِيّ وَغَيره. حَتَّى قَالُوا: الإنعكاس لَيْسَ بِشَرْط فِي الْعِلَل، كَمَا قدمْنَاهُ وَلكنه مَعَ الطَّرْد يدل على صِحَة الْعلَّة.
ثمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: لَا يشْتَرط فِي تثبيت عِلّة الأَصْل أَن تطرد فِي انعكاسها كَمَا اطردت فِي طردها، وَلَكِن لَو ثَبت الحكم عِنْد ثُبُوت مَا قدرناه عِلّة، وانتفى الحكم عِنْد انتفائها وَلَو فِي صُورَة وَاحِدَة. فَيَقَع الإستقلال بذلك فِي تثبيت عِلّة الأَصْل.
فَأَما الَّذِي يطرد وينعكس فنحو الشدَّة فِي الْخمر، فَإِن تَحْرِيمهَا يثبت عِنْد الشدَّة المسكرة، وينتفي عِنْد انتفائها فانتصبت الشدَّة - يَعْنِي الشدَّة المسكرة - علما على الحكم.
وَأما انعكاس الْعلَّة فِي بعض الصُّور من غير اطراد، فنحو قَوْلنَا فِي مَسْأَلَة الرّجْعَة وَإِنَّهَا لَا تحصل بِالْوَطْءِ، فعل من يقدر على القَوْل، فَلَا تصح بِهِ الرّجْعَة، قِيَاسا على الْخلْوَة وَسَائِر الْأفعال. فَإذْ قيل: أما فِي الْخلْوَة فَإِنَّهُ لَا تصح الرّجْعَة بهَا، مِمَّن قدر على القَوْل لَا مِمَّن لم يقدر عَلَيْهِ لِأَن الْأَخْرَس لَو خلا بالرجعية، لم تكن خلوته رَجْعَة. وَلَكنَّا نقُول: لهَذَا الْوَصْف تَأْثِير فِي الْجُمْلَة فِي إِشَارَة الْأَخْرَس، فَإِنَّهَا فعل وَاقع موقع القَوْل، وَلَو قدر الإقتدار على القَوْل، لم يَقع موقعه، فَيَقَع الِاكْتِفَاء بالانعكاس فِي هَذِه الصُّورَة الْوَاحِدَة.
وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُرْتَد، ترك الصَّلَاة لمعصية بعد إِسْلَامه، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاء أَصله الْمُسلم، إِذا أسلم وَترك الصَّلَاة.
فَإِن قيل لنا: فَلَو سكر مكْرها، وَترك الصَّلَاة، لزمَه الْقَضَاء.
قُلْنَا: يظْهر تَأْثِير مَا ذَكرْنَاهُ فِي زَوَال الْعقل بالجنون، فَإِنَّهُ إِن كَانَ سَببه مَعْصِيّة، فَلَا يُؤثر فِي إِسْقَاط الْقَضَاء، وَإِن كَانَ سَببه غير مَعْصِيّة أثر فِي إِسْقَاط الْقَضَاء. فنكتفي بِظُهُور التَّأْثِير فِي هَذِه الصُّورَة الْوَاحِدَة. إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه.
وَوجه هَذِه الطَّرِيقَة. أَنا وجدنَا الحكم يساوق وَصفا من الْأَوْصَاف فِي الأَصْل، ثمَّ وَجَدْنَاهُ يَنْتَفِي عِنْد انْتِفَاء ذَلِك الْوَصْف، أما على الاطراد، وَأما فِي بعض الصُّور، فنعلم ارتباط الحكم بذلك الْوَصْف، وتأثير ذَلِك الْوَصْف فِيهِ. وَلَيْسَ ذَلِك كالطرد الْمُجَرّد. فَإِنَّهُ اكْتِفَاء بِدَعْوَى.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه الطَّرِيقَة لَيست بمرضية فِي إِثْبَات الْعِلَل أَيْضا وَذَلِكَ أَن الْعَكْس لَا يشْتَرط فِي صِحَة الْأَدِلَّة. كَيفَ؟ وَلَا يشْتَرط فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة فوجود الانعكاس وَعَدَمه بِمَثَابَة وَاحِدَة.
وَوجه التَّحْقِيق فِيهِ، أَنه إِذا علق الحكم على وجود أَمارَة، فَلَيْسَ من شَرط التَّعْلِيق بهَا. أَن يعلق ضد ذَلِك الحكم على عدم تِلْكَ الأمارة فَإِن وجود الْعلَّة وَعدمهَا إمارتان فِي تثبيت الحكم ونفيه. وَلَيْسَ سَبِيل استشارة الحكم من الْعِلَل فِي الشرعيات سَبِيل إثارة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة معلولاتها، من حَيْثُ أَنَّهَا توجبها لذواتها. فَلَا تعلق لأحدى الأمارتين وَالْحكم المنوط بهَا بالأمارة الثَّانِيَة وَحكمهَا.
وَوجه الْإِيضَاح فِيهِ أَن نقُول: لَو قَدرنَا ثُبُوت الحكم عِنْد ثُبُوت وصف وانتفاءه عِنْد انتفائه، وقدرنا مَعَ ذَلِك نصا من صَاحب الشَّرِيعَة، على أَن ذَلِك الْوَصْف لَيْسَ بعلة فِي الحكم، وَإِنَّمَا الْعلَّة فِيهِ غَيره كَانَ ذَلِك سائغا فَإِذا جَازَ تَقْدِير نَصبه عِلّة شرعا، وَلم يَقْتَضِي الْعقل نَصبه عِلّة فَإِذا تقَابل جَوَاز نَصبه عِلّة، وَجَوَاز خُرُوجه عَن كَونه عِلّة مَعَ اطراده وانعكاسه، فعلى الَّذِي ينصبه عِلّة فِي الاطراد والإنعكاس، إِقَامَة الدَّلِيل على نَصبه عِلّة. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِذا قدرتم الشدَّة عِلّة لاطرادها وانعكاسها فقد تقارنها أَوْصَاف تُوجد بِوُجُود الشدَّة وتعدم بعدمها، وَذَلِكَ لَا يُوجب تَعْلِيق الحكم على بَعْضهَا. وَذَلِكَ نَحْو الرَّائِحَة الْمَخْصُوصَة الَّتِي تكون فِي الْخمر للشدة فَإِن هَذَا الضَّرْب مِمَّا يُوجد بِوُجُود الشدَّة ويعدم بعدمها.
ثمَّ لَا يعلق الحكم عَلَيْهِ، فَبَطل رِعَايَة الاطراد والانعكاس.
وَهَذَا فِيهِ نظر عِنْدِي، فَإِن الَّذِي يعْتَبر الشدَّة، لَيْسَ يعْنى بِهِ ضربا مَخْصُوصًا من الْأَعْرَاض وَلكنه يُشِير إِلَى هَذَا الضَّرْب من التَّغْيِير، وينطوي قَوْله على جمل من الْأَوْصَاف وَكلهَا تسمى شدَّة. فَمِنْهَا الرَّائِحَة الَّتِي تمثل بهَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.
وَفِيمَا قدمْنَاهُ أكمل غنية فِي إبْطَال رِعَايَة الاطراد والانعكاس.
فَإِن قَالَ قَائِل: آيَة صِحَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، أَن يُوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها فَإِذا تحقق مثل هَذِه الطَّرِيقَة فِي الْعِلَل السمعية، فَيجب أَن يَقع الِاكْتِفَاء بهَا.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل، من أوجه.
مِنْهَا: أَن الاطراد والانعكاس ليسَا بأمارة فِي صِحَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة ...
يصدنا عَن هَذَا الْمَقْصد .
ثمَّ نقُول: هلا قُلْتُمْ أَنه يَكْتَفِي فِي الْعِلَل السمعية بالاطراد وَلَا يشْتَرط فِي تصحيحها الأنعكاس، كَمَا لَا يشْتَرط فِي تَصْحِيح الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة انعكاس، فَتبين خبطهم بِمَا قَالُوهُ.
فَإِن قَالُوا: إِذا وجدنَا الحكم يساوق وَصفا فَيتَحَقَّق عِنْد وجوده، وينتفي عِنْد عَدمه، فيغلب على الظَّن ارتباطه بِهِ. والعلل السمعية مَبْنِيَّة على غلبات الظنون.
قُلْنَا: هَذِه دَعْوَى. فَإِن غلب ذَلِك على ظَنك لم يغلب على ظن من لَا يعْتَبر الاطراد والانعكاس، فَمَا يُغْنِيك ادِّعَاء غَلَبَة ظن، وخصمك لَا يساعدك.

.فصل: اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ على حكم الأَصْل لَا يَقع بِهِ الِاكْتِفَاء:

إِذا نصب الْمُعَلل قِيَاسا، وَوَافَقَهُ خَصمه فِي حكم الأَصْل، فموافقة الْخصم إِيَّاه، لَا يَقع الِاكْتِفَاء بهَا حَتَّى يثبت الحكم فِي الأَصْل بطرِيق الشَّرْع.
وَلَكِن استمرت الْعَادة بَين المتناظرين على الإجتزاء بالوفاق فِي حكم الأَصْل، وَلَيْسَ كَذَلِك لمصير أهل النّظر إِلَى وفَاق الْخصم آيَة فِي صِحَة ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل. إِذْ قدمنَا، أَن إِجْمَاع القائسين بأسرها حجَّة فِيهِ، فَمَا الظَّن بموافقة خصم لخصم!
وَلَكِن لأهل النّظر تواضع بَين أظهرهم، يتبعونه لأغراض لَهُم. فكأنهم عِنْد الإتفاق على حكم الأَصْل، علمُوا ثُبُوت حكمه بِدلَالَة، سوى اتِّفَاقهم. وَلم يتناقشوا. إِذْ لم يقصدوها بالْكلَام.
ثمَّ اعْلَم أَن عِلّة الأَصْل لَا بُد من تقديرها فِي نَفسهَا أَولا. حَتَّى إِذا قدرت أُقِيمَت الدّلَالَة على كَونهَا عِلّة.
ثمَّ عِلّة الأَصْل قد تكون مدركة بِالضَّرُورَةِ مثل أَن تنصب حلاوة الشَّيْء أَو شدته أَو مرارته عللا فِي الْأَحْكَام وَقد تكون عِلّة الأَصْل حكما من الْأَحْكَام، ثَابِتَة بأدلة السّمع. وَذَلِكَ نَحْو اعْتِبَار الْأكل عَامِدًا فِي صِيَام رَمَضَان، بِالْجِمَاعِ. وَالْجَامِع بَينهمَا يقدر الْعلَّة فِي الأَصْل كَونه إبطالا بِمَعْصِيَة، وَذَلِكَ حكم.
وَقد تثبت عِلّة الأَصْل بغلبات الظنون. فَلَيْسَ من شَرط ثُبُوت عِلّة الأَصْل الْقطع، كَمَا لَيْسَ من شَرط ثُبُوت كَونهَا عِلّة، الْقطع.
فَلَو قدر القائس فِي أصل حكما، وَنصب عِلّة مَا تُفْضِي إِلَى غَلَبَة الظَّن فِي مجْرى الْعَادة، ثمَّ قدر ذَلِك الَّذِي غلب على ظَنّه عِلّة فِي حكم وُرُود عَلَيْهَا غَيرهَا. فيسوغ لَهُ ذَلِك كَمَا يسوغ ذَلِك فِي حكم الأَصْل. فَإِنَّهُ لَو نوزع فِي حكم الأَصْل، فثبته، ثمَّ قَاس عَلَيْهِ كَانَ سديدا.
ويتصل بذلك أَنه إِذا قدر فِي الأَصْل عِلّة، فَلَا يشْتَرط تحقق تِلْكَ الْعلَّة قطعا فِي الْفَرْع، وَلَكِن لَو غلب على ظَنّه ثُبُوتهَا فِي الْفَرْع بطرِيق يُفْضِي إِلَى غلبات الظنون، فَلهُ الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل.
فَخرج من هَذِه الْجُمْلَة أَنا لَا نشترط الْقطع فِي شَيْء من أَرْكَان الْقيَاس فَهَذِهِ جملَة مقنعة، تمهد لَك علل الْأُصُول وَمَا يَصح مِنْهَا وَمَا يفْسد.

.القَوْل فِيمَا يثبت بِهِ فَسَاد الْعِلَل السمعية وبطلانها:

اعْلَم، أَن الْكَلَام يَنْقَسِم فِي هَذَا الْبَاب إِلَى قطع وَغَلَبَة ظن.
وَنحن نبدأ بالطرق الَّتِي تَقْتَضِي الْعلم بِفساد بعض الْعِلَل، ثمَّ نذْكر مَا نسلك مِنْهَا طرق غلبات الظنون.
فمما يعرف بِهِ فَسَاد الْعلَّة قطعا، مخالفتها للنَّص فِي مجْرى من مجاريها فَلَو ادّعى القائس حكما فِي الأَصْل على خلاف النَّص فِي الْكتاب أَو السّنة، أَو ادّعى تعليلا بِوَصْف، على خلاف النَّص أَو جمع فِي مَوضِع تَفْرِيق النَّص، أَو فرق فِي مَوضِع جمع النَّص. فَهُوَ بَاطِل مهما خَالف النَّص فِي ركن من أَرْكَانه.
وَمِمَّا يعلم بِهِ فَسَاد الْعلَّة قطعا، مخالفتها الْإِجْمَاع فِي بعض مجاريه. وَالتَّفْصِيل فِيهِ كالتفصيل فِي النَّص.
وَمِمَّا ألحقهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِالْقطعِ فِي إِفْسَاد الْعلَّة، أَن تخَالف عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة نَحْو مَا روينَا عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَنه علل بِالنُّقْصَانِ فِي الرطب فَكل عِلّة تخَالف هَذِه الْعلَّة فَهِيَ بَاطِلَة قطعا.
هَكَذَا قَالَ - رَضِي الله عَنهُ. وَلم ينظر أَن ثُبُوت الْخَبَر بطرِيق يقطع بِهِ من تَوَاتر واستفاضة وَذَلِكَ أَن الروَاة وَإِن كَانُوا بصدد الزلل - فقد كلفنا قطعا - الْعَمَل بِمَا يَرْوُونَهُ وَالْخَبَر مقدم على الْقيَاس قطعا.
وسنفرد هَذِه الْمَسْأَلَة بالْكلَام فِي آخر المقايس إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَلم ينظر أَيْضا رَضِي الله عَنهُ أَن كَون لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَابلا للتأويل، وَلم يجز تَأْوِيله بِالْقِيَاسِ. وَألْحق ذَلِك بالقطعيات وَقد قدمنَا فِي ذَلِك قولا كَافِيا. قلت وَفِي إِلْحَاقه بالقطعيات أدنى نظر، وَالله أعلم.
وَمِمَّا ألحقهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِالْقطعِ فِي إِفْسَاد الْعلَّة أَن لَا يقوم على ثُبُوتهَا عِلّة علم أصلا بِوَجْه من الْوُجُوه فنقطع بفسادها.
وَمِمَّا يلْتَحق بِالْقطعِ أَيْضا، أَن يحيد القائس عَن سنَن الْقيَاس ويسلك بالإستنباط مَسْلَك الْعقل، وَلَا يعْتَبر بمورد الشَّرْع. وَذَلِكَ نَحْو كَلَام الْمُعْتَزلَة فِيمَا يحرم وَيحل عقلا. وبنائهم الاستنباط عَلَيْهِ وإلحاقهم الْفُرُوع بالأصول فِي قَضِيَّة الْعقل فَهَذَا السَّبِيل بَاطِل قطعا. وسنستقصي القَوْل فِيهِ فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. فَهَذِهِ طرق الْقطع.
وَتثبت فِي رد الْعِلَل طرق، ومسلكها غلبات الظنون، وَلَا يبلغ مبلغ الْقطع والتحق بذلك انتفاض الْعلَّة، وَتَخْصِيص الْمُعَلل إِيَّاهَا فَكل من اعْتقد جَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة كَانَ مُكَلّفا بالجري على مَا ثَبت عِنْده فِي حكم الْعلَّة. وكل من اعْتقد منع التَّخْصِيص، كَانَ مُخَاطبا بقضية اعْتِقَاده. وسنفرد مَسْأَلَة التَّخْصِيص بالْكلَام.
وَمِمَّا يلْحق بغلبات الظنون فِي ذَلِك مُقَابلَة الْقيَاس عُمُوما، فَمن النَّاس من يُسَلِّطهُ على الْعُمُوم وَمِنْهُم من يُسَلط الْعُمُوم عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يتَّصل بذلك قُصُور الْعلَّة وَعدم تعديها فَإِنَّهُ على اخْتِلَاف نذكرهُ وَيتبع كل فِيهِ بِمَا يَعْتَقِدهُ.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَمن ذَلِك مُعَارضَة الْعلَّة مَعَ تنافيهما فِي الظَّاهِر فَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ، بِأَن الْمُصِيب وَاحِد أَن الْعلَّة مهما عارضتها عِلّة فِي خلاف حكمهَا فَإِن رجح المسؤول علته بِوَجْه يتَّجه فِي مجاري الترجيحات وأفسد عِلّة الْمسَائِل سلمت علته. وَإِن تكن الْأُخْرَى فَسدتْ علته وَكَانَ ذَلِك انْقِطَاعًا مِنْهُ.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي عندنَا - معاشر الْقَائِلين بتصويب الْمُجْتَهدين - أَن الْعلَّة لَا تقدح فِيهَا الْمُعَارضَة. وَلَكِن كل عِلّة تَقْتَضِي حكمهَا فِي حق مستنبطها، وَلَو تساوتا فِي حق مستنبط وَاحِد تخير بِالْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ مَا نذكرهُ فِي كتاب الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَخرج من ذَلِك أَن مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ لَيست من القوادح. وَلَكِن من قَالَ بتصويب وَاحِد من الْمُجْتَهدين، عد مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ من ضروب القوادح وتكثر نَظَائِر مَا اخْتلف فِيهِ من القوادح، وَقد أَشَرنَا إِلَى بَعْضهَا وَنَذْكُر على تَرْتِيب الْكتاب بَابا فِيهَا. إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.فصل: طرق الاعتراضات على الْعلَّة:

جمع بعض أَرْبَاب الْأُصُول طرق الإعتراضات على الْعلَّة، فبلغوها اثْنَي عشر وَجها وَنحن نشِير إِلَيْهَا، ونوضح الْحق فِيهَا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَمِنْهَا: إِنْكَار عِلّة الأَصْل ومثاله: قَول أصحاب أبي حنيفَة فِي إِخْرَاج الْفطْرَة عَن العَبْد الْكَافِر، كل زَكَاة وَجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد الْمُسلم، وَجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد الْكَافِر، كَزَكَاة عبد التِّجَارَة.
فَيُقَال لَهُم: مَا ذكرتموه مَمْنُوع فِي الأَصْل. فَإِن زَكَاة عبد التِّجَارَة لَا يجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد، وَإِنَّمَا تخرج عَن قِيمَته.
وَمِنْهَا: إِنْكَار عِلّة الْفَرْع. وَذَلِكَ مثل قَول أصحاب أبي حنيفَة فِي لعان الْأَخْرَس معنى يفْتَقر إِلَى الشَّهَادَة، فَلَا يَصح من الْأَخْرَس كَالشَّهَادَةِ. وَلَا نسلم لَهُم مَا قَالُوهُ فِي الْفَرْع من افتقار اللّعان إِلَى لفظ الشَّهَادَة.
وَاعْلَم أَن كل مَا ذَكرْنَاهُ، لَيْسَ بقادح فِي نَفسه وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال موجه يلجئ المعتمل فِي حكم الجدل إِلَى إِقَامَة الدّلَالَة، فَإِن عجز عَنْهَا عد مُنْقَطِعًا حِينَئِذٍ.
وَمِنْهَا: إِنْكَار الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع. وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم فِي الْمُتَمَتّع إِذا لم يصم سقط عَنهُ الصَّوْم، لِأَنَّهُ بدل مُؤَقّت، فَسقط بِفَوَات وقته كَالْجُمُعَةِ فَنَقُول: أما الْجُمُعَة فَلَيْسَتْ بِبَدَل. فَهَذَا منع عِلّة الأَصْل. وَعلة الْفَرْع مَمْنُوع من وَجه آخر وَذَلِكَ أَن الصَّوْم لَا يسلم فِيهِ التَّوْقِيت. إِذْ الصَّوْم الْمُؤَقت هُوَ الْمُخْتَص بِزَمَان.
وَمِنْهَا: إِنْكَار الحكم فِي الأَصْل. وَذَلِكَ نَحْو قياسهم اللّعان على الشَّهَادَة فِي أَنه لَا يَصح من الْأَخْرَس، فَإِذا جَوَّزنَا شَهَادَة الْأَخْرَس كَانَ ذَلِك منعا لحكم الأَصْل.
وَمِنْهَا: أَن لَا يتَعَدَّى الحكم من الأَصْل إِلَى الْفَرْع وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم فِي ضم الدَّنَانِير إِلَى الدَّرَاهِم فِي تَكْمِيل النّصاب، لِأَن زكاتهما ربع الْعشْر فيضم أَحدهمَا إِلَى الآخر كالصحاح والمكسرة. فَنَقُول: الضَّم الَّذِي فِي الأَصْل هُوَ ضم بالأجزاء وَالضَّم فِي الْفَرْع هُوَ ضم بِاعْتِبَار الْقيمَة. فَلم يعْتد الضَّم الَّذِي فِي الأَصْل، إِلَى الْفَرْع.
وَهَذَا الِاعْتِرَاض فِيهِ نظر. إِذْ يجوز الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي أصل الضَّم وَإِن اخْتلفَا فِي الْكَيْفِيَّة.
وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بتصحيح الْعلَّة فِي الأَصْل، وَإِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا: القَوْل بِمُوجب الْعلَّة.
وَمِنْهَا: نقض الْعلَّة، على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بتفسير لفظ الْعلَّة. نَحْو قَوْلنَا لأصحاب أبي حنيفَة، إِذْ قَالُوا: الْجِنْس أحد وصفي الْعلَّة فِي تَحْرِيم التَّفَاضُل فَيحرم النسأ كالوصف الثَّانِي.
فَنَقُول: إِن إردتم بِالْوَصْفِ الثَّانِي الْمكيل لم نسلمه. وَإِن أردتم الطّعْم لم يَصح على أصلكم وكل تَفْسِير يُفْضِي تَفْصِيله إِلَى تمانع، فَهُوَ من الأسئلة الَّتِي تلجئ المسؤول إِلَى التَّفْسِير ثمَّ الدَّلِيل على مَا يتنازع فِيهِ.
وَمِنْهَا: أَن يُخَالف الْقيَاس نصا أَو إِجْمَاعًا.
وَمِنْهَا: قلب الْعلَّة، على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا: معارضتها بِمِثْلِهَا.
وَاعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب غير مرضِي، فَإِنَّهُ منطو على مختلفات.
فَأَما الممانعات فِي الْعِلَل وَالْأَحْكَام فَلَا سَبِيل إِلَى عدهَا فِي القوادح. وَلَكِن الممانعات تلْزم الْمَسْئُول نصب الْأَدِلَّة.
وَأما القَوْل بِالْمُوجبِ فَلَا يبطل العة فَإِن الْوِفَاق على مُوجب عِلّة لَا يُبْطِلهَا أصلا. وَلَكِن إِذا رام الْمُعَلل بهَا إِثْبَات مُخْتَلف، فقوبل بِمُوجب علته، لم يستتب مُرَاده إِلَّا وَالْعلَّة صَحِيحَة. فَلَا وَجه لعد القَوْل بِالْمُوجبِ فِي قوادح الْعِلَل، وَلكنه يقْدَح فِي مَقَاصِد المعللين.
وعجبا لهَذَا الْمُرَتّب كَيفَ أخر أقوى القوادح المفضي إِلَى الْقطع بِفساد الْعلَّة، وَهُوَ مُخَالفَة النُّصُوص وَالْإِجْمَاع.
وَأما الْقلب فَسَيَأْتِي فِيهِ كَلَام، وَقد سبق الْكَلَام فِي مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ وَهَا نَحن فِي النَّقْض وَتَخْصِيص الْعلَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.